بين قُدسيّةالارتباط وسوق القِيم المُنهارة

بقلم ليندا حمّورة

في صراع الزمن بين الماضي والحاضر، لا يقف الإنسان وحده على جسر التحوّل، بل ترافقه قيمه، مبادئه، وأوهامه الجديدة. وبينما كان الزواج في الزمن القريب فعلًا من أفعال القداسة، مبنيًا على المحبة والاحترام والوفاء، بات اليوم في كثير من جوانبه أقرب إلى صفقة تُدار في سوق النخاسة، حيث يُقاس الحب بالمهر، ويُقوَّم الإنسان بما يملك لا بما يكنّه.

لقد أخبرتنا جدّاتنا، أولئك اللواتي كنّ يشبهن الفصول الهادئة، عن زمن كان فيه المنزل غرفتين، والقلب وطنًا رحبًا يتسع للحب مهما ضاقت الجدران. كانت الأعراس تُبارك بالبركة، لا بالمظاهر، وكان “الستر” هو الشرف الأعظم، لا كم قيراطًا في الخاتم. أما اليوم، فنعيش طوفانًا من القيم المادية التي تكتسح بنيان الأسرة، وتخلع عن الزواج رداءه الطاهر، ليصبح عرضًا في مزاد: من يدفع أكثر، يفوز بالعروس.

لم يعد المهر اليوم مجرد عربون نية صادقة، بل صار بطاقة دخول إلى استعراض اجتماعي سطحي، تزينه العيون وتخرّبه القلوب. إننا نعيش في زمن بات فيه المال معيارًا لعواطف البشر، وأصبح “القدر” في العلاقات يُصاغ بالأصفار، لا بالصدق.

يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور: “الزواج عقدٌ اجتماعيٌّ يربط رجلًا لا يستطيع أن ينام وحده بامرأة لا تستطيع أن تعيش وحدها”. لكن ما لم يقله هو أن هذا العقد حين يُفرَغ من روحه، ويُملأ بالثمن بدل القيمة، يتحوّل إلى قيد ذهبيّ يكسر العنق ولا يربط القلب.

ولعلّ في ما نراه من ارتفاع معدلات الطلاق ما يعبّر عن الحقيقة الأكثر مرارة: أن العهود المبنيّة على المظاهر تتهاوى أسرع مما بُنيت، وأن القصور التي تبدأ من قمة الجبل لا تلبث أن تتهاوى عند أول اهتزاز. العلاقات التي تشتريها الأموال لا تبني مستقبلًا، بل تشتري وهماً مؤقتًا سرعان ما ينكشف.

لقد تحوّل الزواج من شراكة وجود إلى استثمار آني، تُحسب فيه الأرباح والخسائر، لا المشاعر والأعمار. وإنّي لأتساءل ؛كما تساءل سقراط يومًا :“كيف يُمكن للعقل أن يرضى بالظلم إن كان العدل لا يُدرّ المال؟”. فهل بلغنا زمنًا يُصبح فيه المال هو العدل؟ أم أن الظلم الحقيقي هو أن نبيع بناتنا على موائد الأثرياء، ونسمي ذلك “سترة”؟

أيّ مفارقة هذه التي تجعل من الحب سلعة، ومن الإنسان سلعة مضاعفة؟ أحاول أن أقارن بين الأمس واليوم، فتضيع عني ملامح الحقيقة في بحرٍ من الزيف. يهرب المعنى من بين أصابعي كالرمل، وأغرق في أسئلتي التي لا تجد شاطئًا، ولا يدًا تنتشلني.

ربما آن الأوان أن نعيد تعريف “المهر” لا كقيمة نقدية، بل كمعيار قيمي: من يحسن الحب، من يعرف معنى الشراكة، من يملك القدرة على الصبر لا الذهب. فما نحتاجه ليس المزيد من المال، بل المزيد من الإنسان. وحين نصل إلى هذه القناعة، فقط حينها، يمكن أن تعود العلاقات صافية كنبعٍ جبلي، لا يشوبه بريق ولا تفسده مصلحة. ذلك لأن الحب الذي يُشترى، لا يُثمر، ومن يتزوج المال لا يسكن قلبًا، بل حسابًا جارياً قد يُغلق في أية لحظة