الأب جوزف مكرزل حارس الذاكرة، يقود الأمانة…

بقلم كارلوس أبي يونس

في مَحطّاتِ العُمرِ المُضيئة، ينهضُ رجالٌ يعزُّ عليهم أن يكونوا ظِلالا” عابرةً لزمنٍ يلتهمُ أسماءنا كما يمحو الرملُ آثارَ الخُطى، بل يختاروا أن يكونوا جُسورًا  مُعلّقةً وقناطرَ ممدودةً فوق أوديةِ النسيان، ليعبُر عبرهم التاريخ حيًّا نابضًا بما حمله من حِبر المخطوطات، وصدى الأجراس، ودفء الأيقونات المُعلّقة في صدور الكنائس.

والأب جوزف مكرزل من أولئك الذين أدركوا أنَّ الإنسان لا يُقاس بعمره، بل بقدْرِ ما يشهدُ للزمنِ دونَ أن ينكسرَ له، وأنَّ الأوطان لا تُحفظ بالقوّة وحدها، بل بمن يحرس ذاكرتها من التبدُّد، ويصون صوت الأجداد من الاندثار، ويُعطي الأحفاد يقينًا بأنَّ الاشجار قد تلينُ لكّنها لا تُقتلع مهما عصفت بها الرياح.

لقد آمن الأب مكرزل أنّ الإيمان فعلُ يقظةٍ دائمةٍ وسهرٍ مُتواصلٍ على أبواب التاريخ كي لا يتسلّل إليه النسيان مُتخفّيًا. فاتسعت خطواته لتُلامسَ شُعور ووجدان الناس، يحاورهم، ويزرع في اعماقهم يقينًا وإيمانًا راسخًا بأنّ ما نرثه لا نملكُه لأنفسِنا وحدنا، بل نحن مؤتمنون عليه لنورَّثه لمن سيأتون من بعدنا.

إنَّ تكليفكم اليوم رئاسةَ جامعة الروح القدس-الكسليك، ليس امتيازًا يُضاف إلى سِجلِّ الألقاب، بل شهادة حيّة بأنّ ما يُبنى بالإيمان والجُهد يَفرِض حُضوره ولو بعد حين، وأنّ هناك رجالًا لا يطلبون المناصب، بل تُطلب منهم إقرارًا بصدقِ رسالتهم وصمتِ عطائهم.

أنتَ الذي أوليتَ الوثائقَ والمخطوطاتِ عنايتك، فأبدعتَ في صونها وبعثِ الحياة فيها، حتى غدت زادًا ثمينًا لكُلِّ طالبِ علمٍ وباحثٍ عن الحقيقة. فإن كنتَ قد مَنحتَ هذه الأوراق روحًا جديدة وجعلتَها بأبهى حُلّة، فكيف لا يكون عطاؤك أعظم حين تُعنى بالنَّشْءِ الجديد، وتزرع في قلوبهم بُذورَ المعرفةِ والأصالة، وتُخرِّج منهم أجيالًا يُحتذى بهم، ويشهد لهم الزمان بأنهم أبناء فكرٍ وصُنّاع مستقبلٍ يُشاد به؟

وما تقدَّم هو غيضٌ من فيضكِم.
نُهديكم أصدقَ التهاني للمنصبِ الجديد، ونُهنّئ الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة على حُسن الاختيار. ونرجو لكم التوفيقَ في حملِ الأمانةِ الثقيلة ومُواصلة رسالةٍ لا تعرف تعبًا ولا مُساومة.

ونتمنّى أن يغمرَ الربُّ دربكم بنورٍ لا ينطفئ وحكمةٍ مُتجدّدةٍ، لتظلّوا واقفينَ شامخينَ كسنديانةٍ لا تنحني لعاصفة، بل تزدادُ رسوخًا كلّما اشتدّتِ الريح.