أوبرا “كارمن” حين تُغنّي الحرية على أدراج التاريخ: بعلبك تُعيد نشيدها مع أوبرا “كارمن”

بقلم زلفا عساف

بين أعمدة معبد باخوس، حيث تُروى الأساطير لا بالكلمات بل بالصدى، عادت مهرجانات بعلبك الدولية هذا العام بلغة غير معتادة. ليست موسيقى عابرة أو حفلة تضاف إلى الجدول، بل فعل ثقافي رمزي يعيد بعث المدينة والناس من بين الانقطاع والانتظار.
بعد عام من الصمت القسري، فتحت بعلبك لياليها على عرضين متتاليين من أوبرا “كارمن”، في نسخة جديدة أعادت المهرجان إلى مصدره الأصلي: المسرح الكبير، باللغة الموسيقية المفتوحة على التعبير والتحدّي.
هذه الأوبرا بالتحديد ليست غريبة عن أدراج بعلبك؛ فقد سبق أن قدّمتها المهرجانات في إنتاجات سابقة، لكن هذه المرة جاءت مختلفة في توقيتها ومعناها.
ليلتان، بين 25 و26 تموز، ارتفع فيهما الصوت فوق الأطلال، كأنه استعاد حقًا سُلب منه. جمهور بالآلاف، جلس في مواجهة تاريخ مفتوح، لم يُروَ بالكتب بل بالصوت والضوء والحركة.

“كارمن”: الحرية التي لا تتفاوض
كارمن، الشخصية التي لا تُروّض، لا تخضع، جاءت لتتسلّل إلى مسرح بعلبك كأنها تنتمي إليه، إلى هذا الفضاء الذي لا يعترف بالحدود ولا بالإملاءات. بصوتها، بحركاتها، بشغفها وإرادتها، بدت وكأنها صدى لروح المدينة نفسها.
الإخراج البصري الذي حمل توقيع خورخي تاكلا، أعاد تقديم الحكاية ضمن رؤية مسرحية تزاوج بين الغرافيكية الحديثة والتكوين الأثري الكلاسيكي.
في الخلفية، كانت الواجهة الرومانية تتحوّل إلى شاشة عرض فنية حيّة، مشغولة بأنامل الفنان نبيل نحّاس، الذي رسم إضاءات الحجارة كما لو كانت نوتات موسيقية لا تقرأ بل تُشعر.

قيادة موسيقية لافتة، أوركسترا رومانية، أصوات أوبرالية من فرنسا، جوقة لبنانية محلية: كل تلك العناصر اجتمعت تحت ظل الأعمدة لتخلق عرضًا لا يُكرّر نفسه.
كل مشهد كان ينتقل بهدوء حادّ: من التوق إلى الغيرة، من العاطفة إلى الانفجار. وفي المساحة ما بين، كانت الأصوات تنفذ بين الحجارة، توقظ ذاكرتها، وتُعيد تحميلها بمحتوى جديد.
ما معنى أن نُعيد مهرجانات بعلبك؟
هذا العام، لم تكن العودة مجرد تنظيم تقني بعد توقف قسري بسبب الظروف، بل كانت استعادة للمعنى.
حين تُغنّى كارمن في حضرة التاريخ، يصبح السؤال عن الحرية أكثر وضوحًا، وأكثر حضورًا.
وحين يجتمع الناس في البقاع، بعد موسم من الانهيار والعزلة، تحت سماء واحدة، فهم لا يحتفلون فقط، بل يُعلنون موقفًا: أن الموسيقى ضرورة، وأن المهرجان ليس حدثًا فنيًا بل شكل من أشكال البقاء.

ما ميّز هذه النسخة من “كارمن” لم يكن فقط جمال العرض، بل طاقة الجمهور. لم تكن التصفيقات مجاملة، ولا اللحظات خاضعة لسينوغرافيا مصمّمة مسبقًا. كانت الحياة تنبض من كلّ تفصيل: من الصوت، من الخطوة، من الشوق المُتراكم.