العروج الى الداخل

بقلم ليندا حمّورة
من رام الطمأنينة في وجوه الناس فقد توهّم؛ فإنّ الوجوه مرايا، تعكس اضطرابها على من ينظر إليها. وحده القلب، إذا صمتَ واستقرّ في ذاته، يُضيء كما يضيء القمر حين لا تطارده الغيوم.
السكون ليس في المدن، ولا في القلوب التي تتكئ على الآخر، بل في النفس إذا خلعت ثوب التعلّق، وجعلت من الوحدة محرابًا، ومن التأمّل صلاةً طويلة. فمن لم يُصادق نفسه، ظلّ في خصومةٍ مع العالم، ولو أحبّ ألف مرّة.
النفوس كالكواكب، لكلٍّ منها مدار. وما يظنّه الناس توافقًا، ليس سوى تقاطعٍ عابر في ليلٍ طويل. فحتى المحبّة، إذا قِيست بالمزاج، أو عُلّقت على أبواب الانتظار، غدت وهمًا مدهونًا بالعسل.
الرقيّ، أن تكتفي. أن تشرب من نبعك، دون أن تمدّ يدك إلى نهرٍ لا تدري منبعه. وكلّما اتّسع وعيك، ضاقت دوائر حاجتك، وازداد يقينك بأنّ السلام لا يُعطى، بل يُكتشَف في العمق، كما يُكتشف الكنز في جوف الأرض، لا على سطحها.
العزلة، عند من فهم، ليست انكسارًا بل ارتفاع. هي أن تهرب من فوضى الـ “نحن” إلى يقين الـ “أنا”، لا غرورًا، بل لأنّك وجدت فيها صورة الخالق منقوشة في داخلك. العارف لا يخشى الوحشة، بل يُصادقها، كما يُصادق الساكنُ هدير البحر حين يدرك أنّ خلف الصوت يكمن العمق.
أما الروابط، مهما كثرت أسماؤها، فلها زمن. هي مطرٌ ناعم، جميل، لكنّه لا يروي الجذور إن لم يكن في الأرض ما يستقبل الماء. فالقلوب لا تتّحد إلا لحظة، ثم تفترق إلى مصائرها، كأوراق الخريف في مهبّ الريح.
والمتصوّف، من اعتزل العالم لا هروبًا منه، بل شوقًا إلى وجهٍ لا يغيب، إلى نورٍ لا ينطفئ، إلى سكينةٍ لا يعكّرها صوت. العزلة عنده ليست قيدًا بل تحرّرًا، لا انسحابًا بل لقاءً، لا موتًا بل انبعاثًا .