الإنسان بين ذكائه الطبيعي وظلّه الاصطناعي
بقلم ليندا حمّورة
منذ فجر وعيه، كان الإنسان يحلم أن يُنجب كائنًا من فكره لا من لحمه، أن يخلق ما يُعينه على الحياة لا ما يُزاحمه فيها. فصنع النار ليستدفئ، والعجلة ليسرع، والمحرّك ليُحلّق، والحاسوب ليفكّر عنه. وفي كلّ مرةٍ ابتكر فيها آلة، ظنّ أنّه يُضيف إلى راحته قطعةً من الضوء.
لكنّه لم يدرك أنّ هذا الضوء ذاته كان يرسم ظلاله، وأنّ كلّ خطوةٍ في رحلة تقدّمه كانت تقرّبه من حافةٍ يقف عندها اليوم مذهولًا، يرى فيها صورته منعكسة على وجه آلةٍ تشبهه وتتفوق عليه. لقد حلم بالتحرّر من القيود، فإذا بالراحة التي طاردها تُصبح القيد الذي يُكبّله، وبالذكاء الذي أنجبه يتحوّل إلى المرآة التي تفضح محدوديّته.
اليوم، نعيش عصرًا لم تعد فيه الآلة مجرّد أداةٍ طيّعة، بل شريكًا ينافس صاحبها في الإبداع والفكر والقرار. الذكاء الاصطناعيّ لم يعد في المختبرات فقط، بل في جيوبنا، في أعمالنا، في مدارسنا، في مشاعرنا. نكتب في حضرته، ونفكّر بظله، وربما نحبّ ببرمجته.
لكنّ السؤال الفلسفيّ العميق يطلّ من خلف هذا المشهد: هل يفرح الإنسان حين تتفوّق عليه آلته كما يفرح الأب بتفوّق ابنه؟ هل يشعر بالفخر أم بالخذلان؟
الآباء يفرحون حين يتجاوزهم الأبناء، والمعلمون يزهو بهم تلاميذهم، لأنّ التفوّق هناك استمرارٌ للحياة. أمّا حين تتفوّق الآلة على الإنسان، فذلك يعني أنّه أنجب من عقله كائنًا قد يسلبه معنى وجوده.
الفيلسوف الألماني هايدغر حذّر من هذا منذ قرنٍ تقريبًا حين قال:
“الخطر لا يكمن في الآلة، بل في أن يتحوّل الإنسان نفسه إلى آلة.”
وها نحن نراه يتحقّق. صرنا نقيس القيمة بالإنتاج، لا بالإحساس. نثق بالحساب أكثر من الحدس، ونُسلم أرواحنا لشاشةٍ تُفكّر بالنيابة عنّا.
بل تعدّى الأمر حدود الفكرة إلى الجسد نفسه.
صار هناك رحمٌ اصطناعي وحملٌ صناعي، وطفلٌ يُخلَق خارج الدفء الإنسانيّ، في مختبرٍ باردٍ ومعقّم من العاطفة. وكأنّنا في طريقنا إلى إنجاب جيلٍ بلا ذاكرة، بلا ملامح، جيلٍ يُبرمج كما تُبرمج الأجهزة.
الروائي دوستويفسكي قال ذات مرّة:
“الإنسان لغز، وسأظلّ أبحث عن معناه ما حييت.” لكنّ الإنسان الحديث لم يعد يبحث عن معناه، بل عن نسخته الأسرع والأدق. نسي أنّ الجمال في نقصه، وأنّ الضعف جزءٌ من كماله. نسي أنّ الروح لا تُشفّر، وأنّ الدمع لا يُولّد صناعيًا.
لقد خلق الله الإنسان على صورته، وها هو الإنسان يخلق الآلة على صورته.
لكنّ الله نفخ في الإنسان روحًا، والإنسان نفخ في آلته “كودًا” لا يعرف الرحمة.
لهذا تبقى الآلة، مهما بلغت، ناقصةً عن إدراك معنى الحنين، أو ألم الفقد، أو رعشة الحبّ الأولى.
ربما سيأتي يومٌ تُعلن فيه الآلة استقلالها، لا لتدمّر الإنسان، بل لتستغني عنه.
يومها سيكتشف الإنسان أنّه لم يصنع خليفةً له، بل مرآةً تُريه هشاشته. حينها فقط سيعرف أنّه لم يُخلق ليكون أذكى الكائنات، بل أكثرها وعيًا بأنّ الذكاء بلا وجدانٍ هو ضربٌ من العدم.
إنّ الخطر الحقيقيّ ليس في أن تُصبح الآلة عاقلة، بل في أن يفقد الإنسان قلبه في سباقه معها. فحين تنطفئ المشاعر، سيبقى على الأرض عقلٌ يعمل… لكن لا أحد يشعر .

