ميساء جلّاد: فن يتجاوز الصوت ليبني ذاكرة بيروت المعمارية

زلفا عسّاف
بدعوة من نادي لكل الناس، وسط حضور لافت في مترو المدينة ببيروت مساء أمس، قدّمت الفنانة ميساء جلّاد ألبومها الأول “مرجع: حرب الفنادق”، في عرض استثنائي جمع بين الموسيقى والهندسة المعمارية، واستحضر ذاكرة المدينة المثقلة بالصراعات. هذا الألبوم ليس مجرد مجموعة من الأغاني، بل تجربة فنية عميقة تستكشف التاريخ الشخصي والجماعي لبيروت عبر عدسة الحرب الأهلية اللبنانية.
البنية الفنية: الموسيقى كأداة لإعادة بناء الذاكرة
يُظهر ألبوم “مرجع: حرب الفنادق” مزيجًا فريدًا بين الأداء الصوتي والموسيقى التجريبية. ترتكز جلّاد على صوتها الرقيق والمحمّل بالعاطفة، والذي يبدو وكأنه يحمل شظايا من ماضٍ لم يُنسَ. ترافقه عناصر صوتية إلكترونية تُحاكي أصوات الحرب، مثل الرياح بين الأبنية الشاهقة وأزيز الرصاص، مما يجعل الألبوم أشبه بعمل سينمائي يُعيد إحياء ذاكرة الحرب.
استخدام الغيتار الصوتي هنا ليس تقليديًا، بل يبدو كأداة سردية تكميلية، تتنقل بين النغمات الحادة والهادئة لتعكس تغيرات الحالة النفسية بين الصراع والسلام. تضيف المؤثرات الصوتية الإلكترونية بُعدًا ميتافيزيقيًا، وكأنها تدعو المستمع إلى الدخول في فراغات المدينة المعمارية المهجورة.
الهندسة المعمارية والموسيقى: لغة مشتركة
كون ميساء جلّاد مهندسة معمارية لا يُعد مجرد خلفية مهنية؛ بل هو حجر الزاوية في عملها الفني. في “مرجع: حرب الفنادق”، تظهر المعمارية كمصدر إلهام رئيسي. الأبنية الشاهقة ليست مجرد مشهد بصري، بل رمز للسلطة، التنافس، والدمار. ميساء تعيد تعريف علاقة الإنسان بالمكان من خلال تحويل الهياكل المعمارية إلى استعارات موسيقية.
هذا النهج يظهر في الطريقة التي تبني بها الأغاني، حيث تشبه كل أغنية تصميمًا معماريًا منفردًا: أساس قوي (اللحن الرئيسي)، طوابق متعددة (تدرجات الأصوات)، وقمة تنفجر بالمشاعر. في أغنياتها، تتحول الأبنية إلى كائنات حية تروي قصصها الخاصة.
الموضوع: الصراع والذاكرة
الألبوم ليس فقط استرجاعًا لتاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، بل هو محاولة لفهم الأثر النفسي والجماعي لهذه الحرب. في كلمات الأغاني، تُبرز جلّاد الحيرة الوجودية للجيل الذي ورث الحرب دون أن يعيشها. تتكرر استعارات الحرب كمعركة داخلية بين الفرد وذكرياته، بين المدينة وهويتها، وبين الأبنية وظلالها.
هنا، تبدو الأغاني كأنها دعوة للتأمل: كيف تُعيد المدن بناء نفسها بعد الدمار؟ وكيف تُعيد النفوس بناء ذاكرتها؟ كل أغنية تحمل بُعدًا فلسفيًا يتجاوز الحدث التاريخي ليصل إلى التساؤلات الإنسانية الكبرى.
الأداء الحي: تجربة حسّية شاملة
في عرضها الحي الذي قدمته في “مترو المدينة”، نجحت ميساء جلّاد في خلق تجربة تتجاوز الاستماع إلى الألبوم. الأداء الحي كان بمثابة “معمار صوتي”، حيث صُممت الإضاءة والديكور لتعيد خلق أجواء الحرب. الأصوات الصادرة من الغيتار تفاعلت مع صدى القاعة بطريقة جعلت الجمهور يشعر وكأنه جزء من المشهد.
ميساء استخدمت جسدها وأداءها المسرحي كعنصر أساسي في السرد. حركاتها على المسرح بدت وكأنها استجابة مباشرة للموسيقى، مما أضاف طبقة إضافية من العمق الحسي. الأداء كان أشبه برحلة تأملية داخل عوالم بيروت المخفية، حيث يلتقي التاريخ بالمستقبل.
فن ميساء جلّاد: بناء ذاكرة جديدة
ألبوم “مرجع: حرب الفنادق” ليس مجرد مشروع موسيقي، بل هو شهادة فنية على قدرة الفن على إعادة صياغة الذاكرة الجماعية. من خلال الجمع بين الموسيقى والهندسة المعمارية، وبين الصوت والتاريخ، تخلق ميساء جلّاد مساحة جديدة للتفكير في صراعاتنا وعلاقتنا بالمكان.
هذا العمل يبرز كدعوة للبحث عن الجمال في الدمار، وعن الأمل في الخراب. إنه عمل يربط الماضي بالحاضر، ويؤكد أن الفن يمكن أن يكون أداة لبناء المستقبل.